جهود العلماء الأفارقة في نشر الثقافة العربية والإسلامية
من الصعب أن نحدد متى بدأ انتشار اللغة العربية في إفريقيا، وبخاصة غربها، لكن تذكر بعض المصادر أن تجَّار المغرب ومصر كانوا يترددون على الأسواق الرئيسية في إفريقيا، وذلك في العقود الأخيرة للقرن السابع الميلادي الموافق للقرن الأول الهجري، ومن الطبيعي أن ينقل هؤلاء التجَّار لغتهم إلى القارة، وهذا في غربها.
وأما شرقها، وبخاصة الحبشة وما جاورها من البلدان مثل جيبوتي والصومال، فقد عُرفت اللغة العربية هناك منذ قرون قبل ظهور الإسلام، لصلتهم بأرض الحجاز واليمن.
ولكن الذي نستطيع أن نؤكده أن انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية في إفريقيا واكب انتشار الإسلام، فهما متلازمان حيثما يدخل الإسلام تدخل معه اللغة العربية، ولا يكاد الإسلام يستقر في مدينة أو قرية حتى يفتح الدعاة أو التجار فيها مدرسة لتعليم القرآن الكريم ومبادئ الدين واللغة العربية التي لا يفهم أحد الإسلام فهماً صحيحاً بدونها.
وكذلك كان للحج دور كبير في نقل اللغة العربية والثقافة الإسلامية إلى القارة، فقد كان بعض الحجاج يبقون في الحجاز بعد الحج للدراسة، وتحصيل العلم والمعرفة، ثم يرجعون إلى بلدانهم لنشر العلم الذي حصّـلوه في الحجاز، ومعهم بعض الكتب الإسلامية والعربية، وكان بعض الأمراء والملوك الأفارقة حين حجهم يستقدمون إلى بلدانهم بعض العلماء لتعليم الإسلام واللغة العربية، ويجلبون معهم كتباً في العلوم الإسلامية والعربية، وبهذه الطرق وصلت كتب كثيرة إلى أرض إفريقيا، وبخاصة غربها؛ مما ساعد على انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
وأصبحت اللغة العربية هي لغة الدين والثقافة والحياة الإدارية، وأصبح الحرف العربي هو الحرف الذي تُكتب به أشهر اللغات الإفريقية، مثل الهوسا والفلانية والسواحلية وأصبحت المنطقة عظيمة الحضارة والتقدم بسبب الإسلام ولغته، (وسرعان ما شكّل الإسلام عادات السكان، وطور أحوالهم، حتى صار مستوى التفكير والثقافة يقارن بنظائره، أو يفوقه في الدول المعاصرة لها، في تلك الفترة في أوروبا)
وقد كان للممالك والعواصم والمراكز العلمية التي ذاع صيتها في غرب إفريقيا، مثل: وتمبكتو وجنى وأغاديس وكنو وكتشنا، الفضل العظيم في نشر الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة، ووصلت الثقافة العربية الإسلامية إلى ذروة ازدهارها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وذلك في عهد (إمبراطورية سنغي الإسلامية) التي اشتهرت بكثرة علمائها ومؤلفاتهم العلمية التي أسهمت بدور كبير في نشر الثقافة الإسلامية في غرب القارة وخارجها.
وقد حفلت مدينة وتمبكتو – العاصمة الثقافية لإمبراطورية سنغي – بالعديد من مشاهير العلماء الذين ألفوا في شتى العلوم الدينية واللغوية والتاريخية.
ومن أشهر علمائها؛ الشيخ أحمد بابا التمبكتي، لم يحظ عالم في وتمبكتو بمثل سعة علمه وشهرته، وكان عالماً موسوعياً، مؤرخاً، عالماً بالشريعة، ومن المتبحرين في اللغة العربية وآدابها، يذكر مترجموه أنه ألف ما يزيد على أربعين كتاباً. وقد درس في دولة سنغي وخارجها، وذلك في مدينة مراكش المغربية لما نُـفي إليها، وحضر دروسه مئات من طلاب العلم في مراكش وخارجها.
ومن أشهر مؤلفاته: (كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج)، وهو كتاب ذيَّـل به كتاب ابن فرحون المالكي (الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب)، وله شرح على (مختصر خليل)، و(كفاية المحتاج)، و(معراج الصعود) وغيرها من الكتب.
ومن العلماء الذين أسهموا في نشر الثقافة العربية الإسلامية في السودان الغربي في عهد إمبراطورية سنغي؛ المؤرخ المشهور الشيخ محمود بن كعت الكرمني صاحب كتاب (تاريخ الفتاش)، وهو كتاب يؤرخ لدولة سنغي والدول التي قبلها مثل دولة مالي، وكان المؤلف من وزراء الحاج أسكيا محمد تورى، ومن الذين صاحبوه في رحلة حجه المشهورة.
ومنهم؛ الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السعدي صاحب (تاريخ السودان)، وهو كتاب يؤرخ لدولة سنغي الإسلامية، وقد امتدت دولة سنغي في أوج اتساعها إلى منطقة آير في النيجر، ومن أشهر مدن آير في تلك الفترة مدينة ” أغاديس وتيجدا”، وقد أسهمتا في ازدهار الثقافة العربية الإسلامية في منطقة آير وخارجها إسهاماً بارزاً، وذلك بكثرة علمائها، ومؤلفاتهم العلمية.
وقد بدأت النهضة العلمية في آير بمجيء الشيخ عبد الكريم المعيلي إليها عام 1479م، وافتتاحه مدرسة قرآنية للصغار، وأخرى للكبار، لتعليم علوم الدين والعربية، وبقي فيها فترة قبل مواصلة رحلته إلى كتشنا وكنو، وقد تتلمذ على يديه كثيرون، ومن أشهر طلابه الذين برزوا وأسهموا في نشر الثقافة الإسلامية العربية: الشيخ العاقب بن عبد الله الأنسمني الأغدسي، وقد ترجم له الشيخ أحمد بابا التمبكتي في نيل الابتهاج فقال: (فقيه نبيه زكي الفهم، حاد الذهن، وقّاد الخاطر، مشتغل بالعلم، في لسانه حدّة، له تعاليق من أحسنها تعليقه على قول خليل “وخصصت نية الحالف” )(3)، وقد اختصر الشيخ أحمد بابا هذا التعليق وسماه (تنبيه الواقف على تحرير وخصصت نية الحالف).
وله جزء بعنوان (وجوب الجمعة بقرية أنوسامان)، ألفه في الرد على الذين يرون أن قرية أنوماسان لا يصح إقامة الجمعة فيها؛ لأن تعداد سكانها لا يسمح بذلك، والشيخ يرى أنه يجب إقامة الجمعة فيها مع العدد الموجود في القرية. وقال الشيخ أحمد بابا: (فأرسلوه، أي الكتاب، إلى علماء مصر فصوبوه)؛ أي صوبوا الشيخ العاقب فيما ذهب إليه من جواز إقامة الجمعة في قرية أنوسامان.
ومن إنتاجاته العلمية أيضاً (الجواب المحدود عن أسئلة القاضي محمود)، وله أيضاً (أجوبة الفقير عن أسئلة الأمير)، وقد أجاب فيها عن أسئلة السلطان الحاج أسكيا محمد. وهذه المعلومات القليلة عن شخص العاقب يشهد له بالمكانة التي كانت له لدى العلماء ورجال السياسة في عصره.
ومن علماء آير الذين أسهموا إسهاماً فعالاً في نشر الثقافة العربية والإسلامية في تلك الفترة؛ الشيخ شمس الدين النجيب بن محمد التيجداواي، قال أحمد بابا التمبكتي عنه: (أحد شيوخ العصر، معه فقه وصلاح، شرح مختصر خليل بشرحين: كبير في أربعة أسفار، وصغير في سفرين)، وله تعليق على كتاب (المعجزات الكبرى) للإمام السيوطي، و(شرح العشرينيات للفازازي)، وله أيضاً (الطريقة المثلى إلى الوسيلة العظمى).
ومن العلماء الأفارقة الذين لهم إسهامات في الثقافة العربية الإسلامية؛ الشيخ أحمد فورتو البرنوي، الذي كان معاصراً للسلطان إدريس ألوما سلطان إمبراطور البرنو من عام 1570 – 1603م، وكان الشيخ أحمد فرتو حافظ سره وإمامه في الصلاة، وله كتاب في تاريخ البرنو، وكتاب آخر في حروب سلطان إدريس ألوما وسيرته، ويعد الكتابان مصدرين مهمين عن إمبراطورية كانم برنو في القرن السادس عشر الميلادي، وقد ترجم الكتابين إلى الإنجليزية رتشمون بالمر R.M.PALMER ، ونُشر عام 1926م.
ومن أشهر علماء السودان الغربي في القرن الثامن عشر الميلادي على الصعيد العالمي؛ الشيخ محمد الكثناوي المتوفى بالقاهرة عام 1742م، وقد اشتهر هذا العالم عند علماء الشرق بفضل السيرة التي كتبها عنه عبد الرحمن الجبرتي في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، حيث قال عنه: (وحج سنة 1142هـ [الموافقة لسنة 1729م]، وجاور بمكة، وابتدأ هناك بتأليف (الدر المنظوم وخلاصة السر المكتوم في علم الطلاسم والنجوم)، وهو كتاب حافل… ومن تآليفه كتاب (بهجة الآفاق وإيضاح اللبس والأغلاق في علم الحروف والأوقاف)… وله منظومة في علم المنطق سماها (منح القدوس)، وشرحها شرحاً عظيماً سماه (إزالة العبوس عن وجه منح القدوس)… ومن تآليفه (بلوغ الأرب من كلام العرب) في علم النحو، وله غير ذلك)(5)، وقد تلقى حسن الجبرتي علوماً مختلفة من محمد الكثناوي، وترجمة ابنه للشيخ محمد الكثناوي تظهر لنا جلياً مكانة هذا العالم الجليل.
وإذا انتقلنا إلى دولة الشيخ عثمان بن فودي في القرن التاسع عشر الميلادي في شمال نيجيريا والدول المجاورة؛ نجد أن إسهام الأفارقة قد بلغ ذروته من حيث الـتأليف والتدريس، والجهاد لإعلاء كلمة الله، ففي مجال التأليف نجد أن مؤلفات الشيخ عثمان بن فوديو قد تصل إلى مائة مؤلف، ما بين كتاب ومقالة، ومن أشهرها كتاب (إحياء السنّة وإخماد البدعة).
وإذا نظرنا إلى علامة السودان، أو عربي السودان، أو نادرة السودان الشيخ عبد الله بن فوديو شقيق عثمان بن فوديو؛ نجد عنده مؤلفات عدة في المجال الشرعي والأدبي ومنها: (ضياء التأويل في معاني التنزيل)، وهو كتاب في تفسير القرآن الكريم، وله أيضاً: (مفتاح التفسير)، وهي منظومة تزيد على سبعمائة بيت، نظم فيها علوم القرآن من كتابي الإتقان في علوم القرآن والنقاية للسيوطي، وله في مجال النحو (البحر المحيط)، وهو منظومة في أربعة آلاف وأربعمائة بيت، نظم فيها جمع الجوامع وهمع الهوامع للسيوطي، وفي الصرف له (الحصن الرصين)، وهو منظومة في ألف بيت، وله ديوان شعري مشهور وهو (تزيين الورقات لما لي من الأبيات).
وكذلك الشيخ محمد بلو بن عثمان بن فوديو، وله مؤلفات عدة، ومن أشهرها (إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور)، وهو من المراجع الأساسية لتاريخ الجهاد العثماني، وأهم علماء تلك الفترة وما قبلها.
ومن الذين أسهموا في الثقافة العربية الإسلامية؛ الشيخ أحمد حمد لبو الماسني، مؤسس الدولة الإسلامية في ماسينا – مالي، وكان له جهود في نشر المدارس القرآنية في منطقة ماسينا وما جاورها، حيث جعل تعليم القرآن الكريم واجباً إلزامياً على كل طفل بلغ السابعة من عمره، وارتفع بسبب ذلك نسبة الحفاظ وعلماء الفقه واللغة العربية وآدابها بين مختلف طبقات المجتمع، وكان للشيخ أحمد نفسه حلقة تفسير في المسجد الجامع، وتقدر بعض المصادر التاريخية عدد العلماء والفقهاء المشهورين في دولة ماسينا بنيف وثلاثمائة عالم، ولكن للأسف الشديد فإن مؤلفاتهم العلمية والأدبية قد اندثرت بسبب الحرب الأهلية التي نشبت بين حفيد أحمد لبو الشيخ أحمد أحمد لبو، والشيخ عمر الفوتي والبكائي الكنتي، رحم الله الجميع – آمين.
ومنهم؛ الشيخ عبد القادر كن (1728م – 1810م) مؤسس الدولة الإمامية في حوض السنغال، وكان للشيخ عبد القادر كن دور كبير في إنعاش الثقافة الإسلامية ونشرها في منطقة فوتا تورو، (وكان أول عمل قام به لإصلاح وإنعاش الحركة الثقافية؛ أن أقدم على بناء أربعين مسجداً جامعاً في طول البلاد وعرضها، وعين في كل مسجد إماماً راتباً، ويتولى القضاء في الوقت نفسه، وفي كل مسجد حلقات لدراسة القرآن الكريم والدين واللغويات… ولقد شجع العلماء، وأولى العلم بالاهتمام)(6)، وتعهد بنمو الحركة الثقافية في منطقة فوتا تورو وما جاورها، حتى وصلت بلاد فوتا في عهده إلى مستوى انتزع فيه قيادة الحركة الثقافية الإسلامية من حوض النيجر، وقد استمرت الدولة الإمامية في عطائها الثقافي حتى جاء الاستعمار الفرنسي وقضى عليها.
وكذلك كان لقبائل كنته العربية في صحراء مالي والنيجر دور مهم في نشر الثقافة العربية الإسلامية في الصحراء وما جاورها، وذلك على يدي الشيخ سيدي المختار الكبير (1729م – 1811م) وذريته من بعده، وكانت خيام الشيخ المنتقلة في الصحراء قبلة طلاب العلم يتوافدون عليها من جميع أنحاء الصحراء لينهلوا من معينة الذي لا ينضب.
وللشيخ سيدي المختار الكبير مؤلفات علمية كثيرة في الفنون الشرعية واللغوية، حتى قيل إنه ألف من الكتب عدداً يساوي سني حياته أربع وثمانون سنة، في حين ينسب له آخرون 312 مؤلفاً(7). ومن مؤلفاته: (تفسير البسملة)، و (فتح الورود في شرح المقصود والممدود لابن مالك)، وغير ذلك.
ومنهم؛ الشيخ المحدث الحافظ صالح بن محمد الفلاني، وهو من العلماء الأفارقة الذين اشتهروا في خارج القارة؛ لأن إسهاماتهم الثقافية كانت في خارجها، ولد الشيخ صالح الفلاني بإقليم فوتاجالو- غينيا – عام 1166هـ، ونشأ بها، وأخد العلم من علمائها، ثم ارتحل لطلب العلم وعمره اثنا عشر عاماً، فدخل مدينة تمبكتو ومكث فيها سنة، ثم ارتحل إلى الصحراء فمكث عند الشيخ محمد بن سنة عالم الصحراء في وقته، ومكث عنده ست سنوات، ثم ارتحل إلى المغرب، ودخل مراكش ومكث بها ستة أشهر، ثم ارتحل إلى تونس وأخذ من علمائها.
ثم ارتحل إلى مصر، وبقي فيها مدة يدرس على شيخ من شيوخها يسمى الشيخ علي الصعيدي أبو الحسن، وكذلك درس عند الشيخ الحافظ مرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس، ثم ارتحل إلى المدينة المنورة التي استقر فيها بعد أداء فريضة الحج إلى وفاته عام 1218 هـ.
وعقد الشيخ صالح حلقة علمية في المسجد النبوي الشريف وتوافد عليه طلاب العلم، وبخاصة طلاب الحديث النبوي وعلومه، وحصل على شهرة في عصره حتى عده بعض العلماء من مجددي القرن الثالث عشر الهجري(
، وقلّ أن تخلو بلدة من بلاد الإسلام في وقته إلا وله فيها عدة من الطلاب، وبخاصة من لهم الاعتناء بعلم الحديث، ومن أشهر تلاميذه في الهند – باكستان- الشيخ محمد عابد السندي، وفي مصر الشيخ علي بن عبد البر الوناني، وفي بلاد شنقيط الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الشنقيطي، وفي الشام أحمد بن عبد اللطيف، وفي تركيا الشيخ محمد الكردي، وغيرهم.
ومن أهم مؤلفاته (إيقاظ همم أولي الأبصار) وهو كتاب في ذم التقليد والتعصب للمذاهب الفقهية السائد في عصره، ومن كتبه المشهورة عند المحدثين (الثمار اليانعة في رفع طرق المسلسلات والمسانيد والأجزاء والجوامع وذكر طرق التصوف وما لها من الطوابع)، واختصره في قطف الثمار، وله أيضاً الأحاديث القدسية، وكل كتبه مطبوعة ومتداولة بين المتخصصين في الحديث وعلومه.
ومن السلاطين الذين قاموا بنشر الإسلام والثقافة العربية في شمال جمهورية غانا في القرن التاسع عشر الميلادي؛ السلطان محمد باباتو الذي ولد في قرية أدونغد (INDONGA) في جمهورية النيجر، هاجر بعد دراسته في قريته إلى شمال غانا للتجارة، وكانت هناك جماعات من قبيلته (زبرما) قد هاجرت قبله إلى تلك المنطقة الغرض نفسه، وقد تمكنت هذه الجماعة من فرض سيطرتها ونفوذها على المنطقة بالدعوة والجهاد، وفي عام 1880م قتل زعيم زبرما المجاهد لنشر الإسلام الشيخ ألفا غزاري في إحدى المعارك، وخلفه محمد باباتو الذي واصل ما بدأه سلفه، وانضم إليه جماعات من قبائل الفلاني والهوسا الموجودة في المنطقة.
وقد شهدت مناطق شمال غانا في عهد محمد باباتو تشييد المساجد والمدارس الإسلامية، واستقدم الفقهاء والعلماء من شمال نيجيريا ومالي، فأسهموا في نشر الثقافة الإسلامية والعربية في شمال غانا، ومنها انتشرت إلى بعض الدول المجاورة مثل شمال توغو وجنوب بوركينا فاسو. وقد تغلبت قوات بريطانيا الغازية والفرنسية على محمد باباتو في عام 1890م، وقسموا دولته بين توغو وغانا وبوركينافاسو.
ومنهم الشيخ عبد الرحمن الإفريقي، ذلك الإفريقي المشهور في بلاد الحجاز المجهول في موطنه الأصلي – جمهورية مالي –، وقد ولد الشيخ عبد الرحمن في قرية ففا (FAFA) الواقعة في جزيرة في نهر النيجر بدولة مالي.
(ولقد كان من حكمة الله أن وهب لهذا الفتى حظاً غير قليل من الذكاء استرعى انتباه الفرنسي المسؤول عن مقاطعته – مقاطعة غاو GAO – وكان ذلك يوم مر هذا بقريته (ففا)، وأقبل على كتّابها الأهليّ الوحيد يتفقد تلاميذه، ويراقب ما بأيديهم من الكراريس الخشبية، عسى أن يكون فيها ما ليس في مصلحة الاستعمار، وجعل يوجه إلى الصغار بعض الأسئلة بلغتهم السونغوية، فتأتيه الأجوبة معبرة عن مستوياتهم المختلفة، حتى جاء دور عبد الرحمن، فإذا أجوبته فوق مستوى غلام في الثانية عشر.. مما أثار إعجاب المسؤول)، وكان هذا سبباً في نقل عبد الرحمن على المدارس العصرية في مدينة غاو، حيث واصل دراسته فيها بتفوق إلى أن نال الشهادة الثانوية باللغة الفرنسية، فعين مدرساً للغة الفرنسية في المدرسة التي تخرج منها، ثم عين بعد ثلاث سنوات في مصلحة الأنواء الجوية، وتدرج في السلم الوظيفي حتى وصل إلى رتبة مساعد المدير، ثم سمحت له سلطات الاحتلال بالسفر لأداء الحج، وبعد الحج عزم على البقاء في مكة المكرمة لطلب العلم الشرعي الذي كان يجهله تقريباً.
وبعد أربع سنوات من الدراسة في الحرم المكي أراد الرجوع إلى بلده، ولكن (شاء الله أن يجمعه في فندق بأحد المسافرين الذي غير رأيه عن السفر، حين اكتشف عبد الرحمن قلة معلوماته الدينية، فحزم أمتعته إلى المدينة المنورة، حيث التحق بمدرسة دار الحديث، مع مواصلة الدراسة على علماء الحرم النبوي؛ من أمثال الشيخ ألفا هاشم الفلاني وغيره من علماء الحرم.
ولما تخرج في مدرسة دار الحديث عين أستاذاً فيها، ومدرساً في المسجد النبوي الشريف، حيث وفد عليه طلاب العلم من كل أنحاء المعمورة لطلب العلم، وقد ظل في تدريسه إلى أن وافاه الأجل في المدينة المنورة.
وقد تخرج على يديه طلاب أسهموا في نشر الثقافة الإسلامية والعربية في بلدانهم، ومن أشهر طلابه الشيخ عمر بن محمد فلاته – رحمه الله تعالى-، الذي تولى التدريس في مكانه بالحرم النبوي الشريف، وكان الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعميد كلية الحديث فيها، والشيخ حامد بكر المدرس في الحرم النبوي – رحمه الله -، والشيخ محمد الثاني إمام الحرم النبوي وغيرهم. ومن مؤلفاته (الأنوار الرحمانية في الرد على التيجانية).
ومن العلماء الأفارقة الذين لهم إسهامات فعالة في الثقافة الإسلامية العربية في غرب إفريقيا ووسطها؛ الشيخ محمود بن عمر باه مؤسس المدارس النظامية في غرب إفريقيا، وبخاصة مدارس الفلاح، وقد ولد الشيخ محمود باه في بلدة جوول (JOWOL) في جنوب موريتانيا عام 1906م، وبعد حفظه لكتاب الله – تعالى – لازم الشيخ عبد الرحمن التركزي، وأخذ عنه علوم التجويد والقراءات وعلوم القرآن.
وفي عام 1928م غادر منطقته بقصد الحج، ولما وصل إلى الحجاز التحق بمدرسة الفلاح حتى حصل على الشهادة الابتدائية، ثم التحق بمدرسة الصولتية، وكان إلى جانب دراسته في المدرسة المذكورة يلازم دروس الحرم النبوي، وبعد دراسة أربع سنوات تخرج في المدرسة الصولتية عام 1940م، وما أن تخرج حتى عاد إلى بلاده فوتاتورو، وكان أول عمل قام به بعد رجوعه هو افتتاح مدرسة نظامية في قريته باسم مدرسة الفلاح عام 1941م، ثم افتتح المدرسة الثانية في مدينة كاي (KAYE) بجمهورية مالي عام 1943م باسم مدرسة الفلاح، وقد قام الشيخ الحاج محمود باه بزيارات متعددة لمختلف مناطق الغرب الإفريقي يلقي المحاضرات، ويفتح المدارس، وقد افتتح حوالي 77 مدرسة عربية في غرب إفريقيا، حتى الكمرون في وسطها، وبنى 89 مسجداً كذلك.
وفي عام 1951م تخرجت الدفعة الأولى من مدرسة الفلاح في كاي، وكان عددهم خمسين تلميذاً، وتم انتخاب تسعة عشر منهم للدراسة بالأزهر الشريف، تحت سرية تامة خوفاً من سلطات الاحتلال التي كانت تضايقه كثيراً بسبب نشاطاته الثقافية، ولما علمت سلطات الاحتلال بسفر الطلاب أشاعت مع المتحالفين معها من بعض الشيوخ التقليديين الذين يخافون على مناصبهم الاجتماعية، أشاعوا أنه نقل البعثة إلى القاهرة لا للتعليم، وإنما قام ببيعهم بالشرق عبيداً، ولم يجد الشيخ بداً من الدفاع عن نفسه، وتفنيد الإشاعات إلا أبياتاً جادت بها قريحته، فقال:
يا عام شعث فخذ ذا الشعر مغتبطاً
من الفلاح وأبناء لها غرر
قمنا مع المجد والإيثار نستبق للنصر
والنشر والمولى لنا وزر
لأمة المصطـفى المختار من مضر
علم الشـريعة في الآفاق ينتشر
والشيخ محمود باه من كبار علماء إفريقيا الغربية في القرن الماضي، وقد توفـي في عام 1978م – رحمه الله تعالى – .
وقد ترك طلاباً قاموا بنشر الإسلام وثقافته العربية في المنطقة، ومن أشهرهم الأستاذ أبو بكر باه الكاتب المعروف في موريتانيا، ومن مؤلفاته (صور من كفاح المسلمين في إفريقيا الغربية)، (الحاج عمر الفوتي حياته وجهاده)، وله أيضاً (محمود رائد الثقافة العربية في إفريقيا الغربية).
ومن علماء حوض السنغال المساهمين في الثقافة العربية الإسلامية الشيخ موسى كمرا (1863-1945م)، وقد ألف الشيخ موسى كمرا في معظم العلوم والفنون المتعارف عليها في الغرب الإفريقي، ومن أشهر مؤلفاته: (زهور البساتين في تاريخ السودانيين)، وكتاب (أشهى العلوم وأطيب الخبر في سيرة الحاج عمر)، وهو مطبوع في المغرب عام 2001م بتحقيق خديم محمد إمباكي وأحمد شكري .ومنهم؛ الشيخ الحاج محمد مرحبا عالم بوركينافاسو في زمانه وكاتبها المشهور، ولد الشيخ مرحبا 1314هـ، وتعلم القرآن الكريم والعلوم الإسلامية على يدي والده، ثم تنقل لطلب العلم من بلد إلى بلد آخر، وارتحل إلى غانا حيث عاش عدة سنوات، واشتغل بالتأليف والتدريس، ثم سافر إلى النيجر حيث التقى رئيس مجلس النواب آنذاك السيد بوبو هما، وأهدى له عدة مخطوطات، وهي الآن في معهد البحوث في العلوم الإنسانية في جامعة نيامي.
وقد ألف الشيخ في عدة فنون؛ منها التاريخ والنحو والصرف والتفسير والأدب، وقد بلغت مؤلفاته أربعة وعشرين كتاباً؛ منها (أساس التواريخ المنقولة من كتب أهل العلم)، (الفتوحات الإسلامية في إفريقيا)، و (تاريخ ملوك موسى وأحوالهم)، ومجموعة من الأعمال الأدبية والدينية، وكتاب (فتح الجنان المنان بجمع تاريخ بلاد السودان). وقد توفي الشـيخ محمد مرحبا عام 1974م بمـدينة بوبو جولا سو – رحمه الله تعالى.
ومنهم؛ الشيخ آدم الإلوري الذي يعد بحق من أكثر الأفارقة إسهاماً في الثقافة العربية الإسلامية، لكثرة مؤلفاته وشهرتها، ولد الشيخ آدم الإلوري عام 1917م ببلدة وسا، وتلقى العلم على يدي أبيه، فختم القرآن، ودرس مبادئ الفقه المالكي، ثم رحل لطلب العلم فدرس على الشيخ صالح بن محمد الأول، والشيخ عمر بن أحمد الأبهجي، والشيخ آدم نماج الكنوي، وسافر إلى مصر فالتحق بالأزهر، لكنه لم يتمكن من البقاء، فرجع على بلاده، وتفرغ للتدريس والدعوة والتأليف منذ عام 1946م.
وقد قام الشيخ بعدة أعمال في مجال نشر الثقافة الإسلامية والعربية في نيجيريا وما جاورها من البلدان، ومن ذلك بناؤه مركز التعليم العربي الإسلامي بأغيغي (AGEGE) في لاغوس (LAGOS) عام 1954م، وقد تخرج فيه ما يزيد على عشرة آلاف طالب، وأما مؤلفاته فهي كثيرة؛ منها مقالات ومنظومات وقصائد ومقررات دراسية، ومن أشهر مؤلفاته: كتابه (الإسلام في نيجيريا وعثمان بن فودي)، وهو من أوائل ما ألف في تاريخ المنطقة في العصر الحديث، ومنها في مجال الأدب (مصباح الدراسات الأدبية في ديار النيجيرية)، وهو أول كتاب في المنطقة يحاول تحديد العصور الأدبية في نيجيريا، وقد توفي الشيخ في عام 1992م
ومنهم؛ الشيخ سعد عمر تورى المؤسس لمدارس سبيل الفلاح الإسلامية سيغو (SEGOU) بجمهورية مالي، ولد الشيخ سعد عام 1909م في قرية قريبة من مدينة سيغو، ودرس على أبيه القرآن الكريم، ثم طلب العلم عند علماء بلاده من أمثال الشيخ محمد الأمين تيام، وكذلك درس في المدارس الفرنسية لمدة أربع سنوات، ودرس النحو والصرف عند الشيخ أحمد المدني، وقد ألف الشيخ سعد تورى مؤلفات عدة، ومن أشهرها على المستوى العالمي:
1- المبادئ الصرفية – في جزأين.
2- الدروس النحوية – في ثلاثة أجزاء.
وهي من الكتب المقررة في أغلب المدارس بغرب إفريقيا، وقد نالت قبولاً عند الدارسين. وتوفي في يوم 1/7/1997م – رحمه الله تعالى -.
ومن مشاهير الأفارقة في مجال الثقافة العربية الإسلامية في القرن الماضي؛ الشيخ الدكتور الوزير جنيد محمد البخاري، ولد عام 1906 بمدينة سكتوه، وبدأ تعليمه بقراءة القرآن الكريم عند الشيخ عبد القادر بن أبي بكر، وبعد ختم القرآن الكريم درس عليه مبادئ الفقه المالكي كالأخضر والعشماوي، ثم انتقل بعد ذلك إلى الشيخ يحيى بن خليل، وقرأ عليه قصائد العشرينيات، ومقامات الحريري، وملحة الإعراب، وغيرها من الكتب اللغوية.
وقد اشتهر الشيخ بكونه المرجع الرئيس في تاريخ الخلافة السكتية، وقد درس في مدرسة العلوم الشرعية بسكتو، ثم عين مستشاراً لأمور الشريعة في مجلس الأمير، وفي عام 1948م عين وزيراً لأمير سكتوه، وهو المنصب الذي بقي فيه إلى وفاته عام 1997م. وقد ترك مؤلفات عدة؛ من أشهرها (ضبط الملتقط من الأخبار المتفرقة)، وتبلغ أبيات هذه القصيدة ستمائة وسبعة وثمانين بيتاً، تناول فيها أغراضاً مختلفة من الشعر في المدح والرثاء والوصف وغيره.
وأخيراً؛ على الرغم مما رأيناه، خلال هذا الاستعراض السريع، من إسهامات لهؤلاء العلماء والدعاة، وجهودهم ومؤلفاتهم العلمية الجديرة بالدراسة والنشر؛ فإنهم لم يلقوا الاهتمام اللائق بهم في بلدانهم أو خارجها إلا القليل منهم.
ولم أقصد من هذا البحث الاستقصاء، وإنما كان الهدف الإشارة إلى بعضهم بصورة موجزة جداً، وقد تركت كثيرين، لعله يكون حافزاً للباحثين الأفارقة وغيرهم للاهتمام بعلماء إفريقيا المسلمين وإنتاجاتهم العلمية – وبخاصة غرب إفريقيا ـ والله المستعان.